مقالات للكاتب

أيهم السهلي

الجمعة 10 كانون الثاني 2025

شارك المقال

عن المزايدة على المقاومة والشعب


لم أكتب يوماً عن أمر لا يتعلّق بالقضية الفلسطينية، ولا أعتبر أن لي معرفة خارج هذه القضية ومتعلقاتها. ومن هذا الجانب، كتبت مادة واحدة عن سوريا قبل مدة قصيرة تحت عنوان «سوريا لشعبها». ولمّا فعلتها، وكنت متردّداً، اعتبرت أن القضايا في بعض الدول العربية هي بالضرورة ملتصقة بالقضية الفلسطينية، وبالتالي أمرها يعنيني، غير أن سوريا تعنيني لأنها البلد الذي نشأت فيه وترعرت، وكل ما فيه يمسّني تماماً. والخير الذي يصيب أهله يصيبني كما يصيب المنطقة قاطبة، والشر كذلك، لا أراهم الله سوءاً أو شراً، فما حاق بالسوريين على مدى عقود كافٍ وكاف.
مقدمتي هي محاولة تمهيد لبعض الأمور التي سآتي عليها بعد قليل، ومنها وعلى رأسها جرأة البعض على إطلاق صفات تمسّ الشعب السوري، كاعتباره بلا مسؤولية، وخائن (لمن؟) كما كتب غير «مغرد» و«مفسبك». وآتي على ذكر هذا الأمر بداية لأنه لا يحترم الشعوب وتاريخها. وتالياً لأنه كلام ينمّ عن جهل كبير بهذا الشعب، وتكوينه الاجتماعي والنفسي، والوطني.
لأنني أعرف سوريا جيداً وأعرف شعبها، من دون ادعاء، أعرف تماماً أن السوريين غير راضين عن احتلال إسرائيل لأراض جديدة في بلادهم، كما لم يكونوا راضين عن احتلال الجولان، ولا عن الصمت المطبق للنظام على مدى أربعة عقود. كانوا صامتين رغماً عنهم، لأن التكلم في هذا الأمر، بعرف النظام، «يوهن عزيمة الأمة» و«يضعف الشعور القومي» وما إلى ذلك من تهم جاهزة وكاذبة، هدفها منع الشعب من التدخل في شؤون البلاد، حتى المناطق المحتلة منها. وعليه، كل محاولة مقاومة في الجولان قوبل صاحبها، لو مسّك، بالتغييب والتعذيب.
السوريون عبّروا عن رفضهم، ويعبّرون، والحقيقة أن السوريين في القرى الجديدة المحتلة، خرجوا وتظاهروا في وجه دبابات الاحتلال، وتعرضوا لإصابات بنيران إسرائيلية، وهناك العديد من التقارير الصحافية التي رصدت ذلك. هؤلاء الأهالي، في معظمهم، ليس لهم شأن بفلسفة السياسة، والكلام الكثير الذي يدور بين المثقفين والمتثاقفين، وبين المغلولين من تغيير النظام في سوريا. هؤلاء لديهم شأن واحد، أن لا يروا غريباً يحتل أرضهم، حالهم كحال أي إنسان في هذا العالم، لا يقبل باحتلال أرضه. هذا الشعور الطبيعي والفطري لدى البشر، فما بالنا بمن يعرف القصة ببساطتها، وهو لا يملك سوى أرضه التي يعيش فوقها، ويأكل من خيرها.
الشعب السوري يعرف طريقه جيداً، ولا يحتاج إلى من يدلّه على السبيل. فرح فرحاً ما بعده فرح بسقوط الطاغية وطغمته (الفرح من أولويات الشعب الآن)، بغض النظر عن سؤال المستقبل، وليس ذلك بغريب، الغريب أن يستغرب أحدهم فرحهم. ومن لم يقدر على فهم فرحهم، عليه فهم سوريا على مرّ سنين طويلة، كيف عاشت، وحجم معاناة أهلها وشعبها، والخوف الذي صار ملازماً لحياتهم، وغيرها من أمور قد تحتاج صفحات الجريدة كلها لتعداد عناوينها فقط، وقد لا تكفي.
على من يعطي نفسه الحق بتقييم شعب بأسره، أن يعيد النظر، وينظر إلى المتغيرات الكبرى التي حدثت في المنطقة، فهي كبيرة جداً. حتى إنه قيل بأن دولاً فوجئت، وأخرى انضحك عليها، وأخرى شاركت، وأخرى تآمرت. ببساطة، هناك مصالح تحرّك السياسة، وهناك مستقبل ترسمه تلك السياسة، فمن لم يزح عن كرسيّه خلال 13 عاماً، أزيح بأحد عشر يوماً فقط.
هذه المتغيرات تستدعي مراجعة صادقة لكل ما حدث خلال السنوات الماضية. ولا أبالغ إن قلت، مراجعة كل حدثٍ، سياسي أو عسكري، وكل تصريح خرج، أو ما زال يخرج، من دون حسّ بالمسؤولية تجاه المستقبل. وهذه المراجعة ستزيل شيئاً من التناقض والتنافر الديني الذي تعمّق في السنوات الأخيرة، وكاد أن يتلاشى بعد الحرب على غزة، ودخول حزب الله على خط المواجهة إسناداً، ولاحقاً في الحرب التي فتحت عليه في لبنان.
من شأن المراجعات، لو حدثت، وأخرجت نتائجها للناس، أن تسكت بعض الذين يزايدون على المقاومة الفلسطينية، بتحميلها المسؤولية عن مجريات المنطقة منذ السابع من أكتوبر. حتى وصلت ببعضهم أن شتم «طوفان الأقصى» وجعله «هاشتاغ». كيف يمكن تصديق هؤلاء بأنهم مع حق الشعوب في المقاومة من أجل الحرية! كيف؟
هناك من تجاوز تلك الآراء نحو مطارح أغرب، بأن على المقاومة أخذ مسافة من المقاومة في فلسطين، لـ«مسؤوليتها» عن الحرب على لبنان، والاغتيالات، واستشهاد السيد حسن نصر الله. هؤلاء، مرة أخرى، يريدون من المقاومة مكاسبها، ولا يريدون تقديم استحقاقاتها. والرد على هؤلاء من أصحاب الشأن، بتقديم رواية للحرب، وللسنوات الماضية، للتاريخ من أجل المستقبل.
هؤلاء الذين يشتمون ما حدث في السابع من أكتوبر، يعرفون ويدركون أنهم يشتمون فلسطين، ويشتمون شعبها، ويشتمون تاريخاً من النضال لم يتوقف. وهؤلاء ذاتهم الذين يعتبرون أنفسهم خلاصة الوطنية والذود عن الأوطان العربية، هم الذين يريدون القتال الذي على «ذوقهم»، مثلاً بأن يكتفوا بأن «حماس» تتبع لـ«الإخوان المسلمين»، وبالتالي فهي «عميلة»، هذا ما يقوله هؤلاء، ولست أبالغ. هؤلاء، برؤاهم، خوّنوا الشعب السوري سابقاً لمّا انتفض على نظامه، وخوّنوه اليوم لمّا فرح بسقوط النظام، وباسم فلسطين خوّنوا المقاومة الفلسطينية. هؤلاء أغرب ظاهرة عرفتها بلادنا، هؤلاء الذين إن فهموا على أنفسهم لن يتمكّن الفهم من فهمهم.
* صحافي فلسطيني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي